الخميس 6 مُحرَّم 1447هـ 3 يوليو 2025
موقع كلمة الإخباري
دم ودمع: كيف تحول العزاء الحسيني من طقس محلي إلى ظاهرة عالمية؟
خاص - بغداد - كلمة الإخباري - بقلم: رئيس التحرير
2025 / 07 / 01
0

على أرضٍ اختارتها السماء مسرحاً للفاجعة وشاهداً على الفداء، تتجلى طقوس الحزن الحسيني في كربلاء كأعرق مظاهر الولاء الشيعي وأكثرها تجذراً في وجدان التاريخ. تلك المراسم التي تشكلت عبر ثلاثة عشر قرناً من الدموع والدماء، لم تكن مجرد تقاليد عزاء بل أضحت شريان هوية ومنارة مقاومة، تستمد قوتها من بقعة الأرض التي شربت دماء سبط النبي وصحبه الأبرار.

ما يميز كربلاء ليس فقط كونها مهبط الوحي الحسيني الأول، بل لأنها احتفظت بروح المكان وذاكرة التراب، فتحولت من مشهد مأساة تاريخية إلى أكبر تجمع بشري على وجه الأرض، يفوق في أعداده حجاج بيت الله الحرام، مخترقاً حواجز الزمان والمكان بأكثر من عشرين مليون زائر سنوياً، يلبون نداء “لبيك يا حسين” بدلاً من “لبيك اللهم لبيك”.

صرخة زينب: بذرة العزاء الأولى (680-750م)

كانت الشمس تلملم أشعتها الأخيرة على أرض الطف حين دوّت صرخة السيدة زينب عليها السلام في أفق الصحراء: “يا محمداه… هذا حسين بالعراء مضرج بالدماء مقطع الأعضاء”. تلك الكلمات المفجعة، التي انطلقت من حنجرة الألم، شكلت النوحة الحسينية الأولى في التاريخ، والبذرة التي ستنبت لاحقاً شجرة العزاء الباسقة الأغصان.

لم تكن تلك مجرد صرخة عابرة، بل كانت إعلاناً لولادة تقليد سيمتد عبر الأجيال. وبعد عودة السبايا وزيارة الإمام السجاد عليه السلام للمكان، جاءت أول زيارة موثقة تاريخياً من قبل سليمان بن صرد والتوابين عام 684م، الذين “ناحوا وضربوا صدورهم وقضوا ليلة عند القبر” قبل انطلاقهم نحو ثورتهم ضد الأمويين. هكذا ارتبط الحزن بالثورة منذ اللحظة الأولى، وأصبحت كربلاء ليست فقط مرقداً للبكاء، بل منطلقاً للتغيير والمقاومة.

حفظت لنا صفحات التاريخ تلك البدايات الأولى في كتاب “مقتل الحسين” لأبي مخنف (ت. 775م)، الذي جمع شهادات شهود العيان وحفظها بسلاسل إسناد قصيرة، ليصبح هذا النص المؤسس ذخيرة معرفية أصيلة لكل من جاء بعده، وليؤسس لأدب المقاتل الذي شكل الوعي الجمعي للأمة بفاجعة كربلاء.

العصر البويهي: عندما خرج العزاء من القلوب إلى الشوارع (945-1055م)

ظلت شعلة العزاء متقدة في القلوب والبيوت، تنتقل من جيل إلى جيل بصمت وخشوع، حتى جاء العصر البويهي ليشهد انعطافة تاريخية في مسار العزاء الحسيني. ففي عام 963م، وتحت ظلال حكم معز الدولة البويهي، خرجت أول مواكب عزاء علنية في بغداد، حيث “أُغلقت الأسواق، وخرجت مواكب من الشيعة يبكون وينوحون ويضربون وجوههم وصدورهم”.

كان ذلك إيذاناً بتحول العزاء من طقس سري إلى ممارسة جماعية علنية ذات هوية واضحة وأشكال محددة. وقد انعكس هذا التحول على كربلاء مباشرة، التي شهدت في هذه الفترة أول تطوير معماري كبير على يد عضد الدولة الديلمي، الذي وضع أول تخطيط هندسي للمدينة المقدسة بأحيائها ومؤسساتها.

وفي ظلال هذا العصر الذهبي، ظهرت أول المباني المخصصة للمجالس الحسينية (الحسينيات)، تلك الصروح التي ستصبح لاحقاً منارات للعلم والأدب والفكر الشيعي، وليس فقط أماكن للعزاء.

العصر الصفوي:(1501-1736م)

مع بزوغ فجر الدولة الصفوية، دخل العزاء الحسيني مرحلة النضج والتطور الكبير، حيث أدخلت طقوس جديدة تنوعت بين السرد والتمثيل والممارسات الجسدية التعبيرية.

ولد فن السرد العاطفي المؤثر لأحداث كربلاء - مستندا لكتاب “روضة الشهداء” (1502-1503م) الذي اتخذ طابعاً محلياً فريداً يركز على الجغرافيا المقدسة، فالقارئ يشير إلى المواقع الفعلية للأحداث، ويصف المشاهد كما وقعت على الأرض التي يقف عليها المستمعون، مما يضفي على السرد بعداً واقعياً مؤثراً لا يمكن تكراره في أي مكان آخر.

ظهرت في هذا العصر أيضاً ممارسات تعبيرية جديدة كضرب الصدر والضرب بالسلاسل وطقوس السيوف، وهي في كربلاء تكتسب قداسة خاصة ورهبة عميقة، فهي لا تجري في مكان رمزي، بل في المكان الأصلي الذي شهد المأساة بكل تفاصيلها.

أما ما يعرف محلياً بـ”التشابيه” - تلك التمثيليات المسرحية التي تعيد إحياء أحداث كربلاء - فقد كانت في كربلاء ذات طابع خاص، حيث تتضمن إعادة تمثيل حرق خيام الإمام الحسين وسبي النساء والأطفال في مشهد مهيب يجري في المكان الذي وقعت فيه الأحداث الحقيقية، وهو طقس فريد لا يوجد بهذه الصورة في أي مكان آخر.

العصر العثماني: صمود العزاء في وجه العواصف (1534-1917م)

اتسمت العلاقة بين الدولة العثمانية وكربلاء بالتعقيد والتناقض، فرغم الطبيعة السنية للحكم العثماني، إلا أن الدولة استوعبت المراقد الشيعية ضمن نظامها الإمبراطوري كـ”أوقاف الحرمين الشريفين الحسيني والعباسي”. لم يكن ذلك عن محبة خالصة، بل عن فهم عميق لأهمية هذه المراقد في الاقتصاد الديني للإمبراطورية وفي ولاء رعاياها الشيعة.

شهد عام 1737م تحولاً مهماً عندما أصبحت كربلاء المركز الرئيسي للدراسات الشيعية متجاوزة أصفهان، مما عزز مكانتها كعاصمة روحية وعلمية للعالم الشيعي. لكن هذا الازدهار قوبل بردة فعل عنيفة تمثلت في الهجوم الوهابي المدمر عام 1801م، الذي حصد أرواح الآلاف ودمر قبة الإمام الحسين عليه السلام.

لكن كربلاء، نهضت من رمادها أقوى وأكثر تماسكاً، فأعيد إعمار المراقد بشكل أكثر روعة، وتعززت الهوية الكربلائية المحلية في مواجهة التهديدات الخارجية. كان ذلك درساً في صمود الرمز المقدس أمام محاولات الطمس والتدمير.

العراق الحديث: القمع والإصرار (1921-2025م)

في ظل العراق الملكي، عانت كربلاء والشيعة عموماً من تهميش منهجي رغم كونهم أكثر من نصف السكان. استخدمت الحكومة وسائل قمع متنوعة وصلت إلى “القصف الجوي العشوائي” ضد المناطق الشيعية خلال ثورات الثلاثينيات، في محاولة لكسر شوكة الحركات المناهضة للنفوذ البريطاني والتي كان للمرجعية الدينية في كربلاء دور بارز فيها.

أما عهد البعث (1968-2003) فقد شكل أحلك فصول تاريخ العزاء الحسيني، حيث مُنعت المواكب السنوية في السبعينيات، واعتُقل المعزون، ومُنع أعضاء حزب البعث من المشاركة في زيارة الأربعين. بلغت الهجمة ذروتها عام 1991 عندما دُمرت عشرات المساجد والحسينيات، وأُحرقت المخطوطات النفيسة، وألحقت أضرار بالغة بالمراقد المقدسة.

لكن الروح الحسينية ظلت متقدة تحت الرماد، تنتظر لحظة الانبعاث. وجاءت تلك اللحظة بعد 2003، حيث شهدت كربلاء نهضة مذهلة تجلت في نمو زيارة الأربعين من مليوني مشارك إلى أكثر من عشرين مليوناً بحلول 2014، محققة بذلك أكبر تجمع ديني سنوي في العالم، متجاوزة حج مكة المكرمة وكومبه ميلا الهندوسية.

تشريح العزاء الكربلائي

تتنوع مواكب العزاء الكربلائية بين مواكب الزنجيل المنظمة التي تصل إلى المراقد خلال أيام محرم الأولى، متميزة بإيقاعاتها وألحانها الخاصة التي تطورت محلياً، والمواكب التقليدية التي تنطلق من الحسينيات المحلية وتطوف شوارع كربلاء بمسارات محددة، حاملة معها إرث عائلات كربلائية عريقة.

تتوزع المجالس الحسينية على أماكن مقدسة تحمل كل منها ذاكرة خاصة من ذاكرة المأساة: مرقد الإمام الحسين عليه السلام بقبته الذهبية المهيبة وأبوابه العشرة ذات الأسماء المعبرة، ومرقد العباس عليه السلام، حامل اللواء وساقي عطاشى كربلاء، والمخيم الذي يمثل خيام آل البيت، وتل الزينبية الذي شهد صرخة السيدة زينب الأولى.

عائلات كربلاء: حراس التراث وسدنة المقام

لعبت العائلات الكربلائية العريقة دوراً محورياً في الحفاظ على تقاليد العزاء وطقوسه عبر الأجيال. تتصدر هذه العائلات آل فايز (فرع آل طعمة)، أقدم عائلة علوية في كربلاء، المنتسبة إلى إبراهيم المجاب (القرن التاسع)، أول علوي استوطن كربلاء. تولت هذه العائلة السدانة الوراثية لمرقدي الإمام الحسين والعباس عليهما السلام، والنقابة (أشراف نسل النبي).

كما برزت عائلة الكيلدار، حملة المفاتيح الوراثيين وحراس المراقد المقدسة، المسؤولون عن إدارة المساحة المقدسة والاحتفالات والصيانة. واللقب نفسه “الكيلدار” (حامل المفاتيح) يمثل مسؤولية موروثة تنتقل عبر الأجيال كشرف وتكليف.

أما عائلة الشيرازي التي هاجرت من شيراز إلى كربلاء في القرن التاسع عشر، فقد أصبحت من أكثر العائلات الدينية تأثيراً، وحافظت على نقل المعرفة الفقهية، وأنتجت عدة مراجع عظام شكلوا الوعي الديني الشيعي الحديث.

الإبداع الكربلائي: حزن وفن!

لم يقتصر العزاء الحسيني على الطقوس والشعائر فحسب، بل أنتج تراثاً أدبياً وفنياً غنياً ومتنوعاً. برز “الشعر الكربلائي” كما وثقه السيد سلمان آل طعمة في كتابه “الحسين في الشعر الكربلائي”، ليشمل القصائد المؤلفة من شعراء عراقيين عرب مواطني كربلاء، في تمييز دقيق بين “الشعر الكربلائي” المحلي و”شعر كربلاء” العام الذي يضم كل ما قيل عن كربلاء بغض النظر عن أصل الشاعر.

موسيقياً، يُعد “المقام الحسيني” أهم عنصر فني فريد في الحزن الحسيني، وهو نظام مقامي متخصص يُستخدم في اللطميات وطقوس الرثاء. تتميز المقامات العراقية، بما فيها الحسيني، بنبراتها الحزينة المتجذرة في تقاليد الحزن البابلية القديمة، مما يخلق تواصلاً روحياً بين حضارات وادي الرافدين القديمة والطقوس الإسلامية الشيعية.

تتنوع أشكال الإنشاد الكربلائي بين “اللطمية”، ذلك الطقس التعبيري الذي يجمع بين الشعر وضرب الصدر بإيقاعات محددة، و”النياحة”، تلك المراثي المؤثرة المصممة خصيصاً لتحريك دموع المستمعين في مشهد جماعي من التطهير الروحي والعاطفي.

لم تعد كربلاء مجرد مدينة على خارطة العراق، بل تحولت إلى رمز كوني للتضحية والفداء، ومدرسة في الصمود والمقاومة. عبر ثلاثة عشر قرناً من الدموع والدماء، حافظت على شعلة العزاء متقدة، متحدية كل محاولات الطمس والإلغاء.

اليوم، وفي ظل التحولات الكبرى التي يشهدها العالم، تقف كربلاء شامخة بمآذنها وقبابها الذهبية، تستقبل ملايين الزوار من شتى بقاع الأرض، في مشهد فريد يعكس قوة الرمز وخلود الرسالة. فمن صرخة زينب الأولى إلى مواكب الملايين اليوم، ظل صدى “يا حسين” يتردد عبر الأزمنة، ليس فقط كنداء حزن، بل كصرخة ثورة ضد الظلم، وهتاف أمل في غد أفضل يسوده العدل والحرية.



التعليقات