الاثنين 7 ربيع الأول 1447هـ 1 سبتمبر 2025
موقع كلمة الإخباري
خبر فرحة الزهراء.. لماذا أعرض عنه الفقهاء؟!
السيد علي العزّام الحسيني
2025 / 08 / 31
0

  الحديث عن الاحتفال و(التعييد) في يوم التاسع من ربيع والمعروف بين الناس بـ(فرحة الزهراء-عليها السلام)؛ حديثٌ واسع متشعب؛ نظرًا لتعدّد زوايا الموضوع واختلاف جهاته وحيثياته: التاريخية والاجتماعية والسياسية، وهي جهات وحيثيات لا تُعنى بها هذه السطور بقدر عنايتها بالبُعد الفقهي للمناسبة في سبيل الكشف عن السبب الحقيقي وراء ترك الفقهاء العمل بالخبر الوارد في هذا المجال، وسأحاول تناول الموضوع بأسلوب سلس من خلال عرضه في أربعة أسئلة مع الإجابة عنها:

السؤال الأول- قد يسارع بعض الناس فيتساءل مستنكرًا: وهل هناك زاوية شرعية في هذه المناسبة كي يبحث عنه أساسًا؟!، والجواب: نعم، ومن دون تردّد؛ لوضوح أنّ جميع أفعال المكلّفين وتروكهم بلا استثناء مستوعَبة للأحكام الشرعية، فما من واقعة إلا ولله فيها حكم، ومن تلك الوقائع ما يقوم به بعض المؤمنين من الاحتفال في هذا اليوم من كل عام، واعتباره يوم بهجة وسرور، فيقيمون فيه مجالس الفرح ومراسم الاحتفال بمتطلباته ومظاهره، من توزيع الحلوى وتبادل التهاني ونشر اللون الأحمر، والاغتسال، ولبس الجديد من الثياب وإلخ، فالمسألة من هذه الناحية لا تختلف في شيء عن سائر الأفعال والموضوعات، وعليه، إذا كان الاحتفال في فرحة الزهراء(عليها السلام) له حكمه الشرعي الخاص به، فما حكمه في نفسه؟!، وهذا هو السؤال الثاني:

السؤال الثاني- ما حكم الاحتفال بفرحة الزهراء(عليها السلام)؟، ولك أن تقول في صياغة السؤال: هل ثمة محذور شرعي في إقامة مجالس الفرح والاحتفال في التاسع من ربيع الأول؟!، وجوابه: لا شك أنّ الحكم الشرعي هو الجواز وعدم الحرمة، وأنّه ليس في تلك الممارسات أيّ محذور وإشكال، ولكن علينا الالتفات جيدًا إلى أنّ المنظور هنا هو الحالة الأولية والحكم الأصلي، مجرّدًا عن العناوين التي يمكن أن تلحق به وتغيّر حكمه، وما بين أيدينا لا يختلف في شيء عن الموضوعات المباحة التي جرت عادة الفقهاء على تقييد حكمها بقيد (في نفسه، أو في حدّ ذاته، وإلخ)، فيقولون مثلًا: تصفّح النت جائزٌ في نفسه، أو لا يحرم الوشم في حد ذاته، وهلم جرًا. 

وعلى هذا الأساس، فتخصيص يوم التاسع من ربيع بالاحتفال والفرح جائز، وليس فيه أي إشكال شرعي(في نفسه)، ما لم يدخل تحت عنوان آخر، وإلا أخذ حكم العنوان الذي دخل تحته، كما لو نُسبتْ تلك الممارسات إلى الدين، وجرى التعامل مع يوم التاسع من ربيع على أنّه يوم عيد، (بالمعنى الشرعي للعيد)، بأن أُسندتْ إليه خصائص العيد-كُلًا أو بعضًا- التي وردتْ في الشريعة، وحينئذٍ ينطبق عنوان: الابتداع في الدين، أو التشريع المحرّم.

السؤال الثالث- ولكن قد يقال: إنّ عنوان الابتداع يمكن أن يصدق على ما يقوم به المحتفلون لو كان من وحي خيالهم ومخترعاتهم، ومن عنديات أنفسهم ومبتدعاتهم، دون ما إذا كان للموضوع أصلٌ في الروايات، فهل الأمر كذلك فعلًا أو أنّهم يستندون إلى شيء مروي عن أهل البيت عليهم السلام؟!، فيقال في جوابه: نعم، لهم في ذلك أصل، وهو خبر طويلٌ مرويٌّ عن الإمام أبي الحسن العسكري(عليه السلام)، -والمقصود به هنا الإمام علي الهادي، وليس الإمام الحسن العسكري كما اشتبه بعضهم- ويُعرف بخبر أحمد بن اسحاق القمي، وهو نصٌّ طويلٌ جدّا، ليس من المناسب نقله في مقال قصير، ومن ثمّ سأعمد إلى نقل ملخصه، وأحيل من يريد الإطلاع عليه بلفظه بشكل كامل إلى بحار الأنوار، إذ أورده العلامة المجلسي مرّتين، كانت إحداهما تحت باب يحمل عنوانه: فضل اليوم التاسع من شهر ربيع الأول وأعماله.(انظر: بحار الأنوار ج95 ص: 351).

  حاصل الخبر أنّ جماعة من الشيعة في قم اختلفوا بشأن الخليفة الثاني، فقرّروا الاحتكام إلى(أحمد بن إسحاق القمي) باعتباره وجه الشيعة هناك ومن المقرّبين على الإمام الهادي(عليه السلام)، وحين طلبوه في داره وجدوه مشغولًا في الاحتفال بالعيد- كما أخبرتهم الصبية العراقية التي خرجت إليهم- فاستغربوا من ذلك؛ لمخالفته لما ركز في أذهانهم من كون الأعياد عند الشيعة أربعة فقط: الفطر والأضحى والجمعة والغدير؛ فأخذت الصبية تخبرهم من أنّ القمي يحدّث عن سيده الهادي" أنّ هذا اليوم يوم عيد، وهو أفضل الأعياد عند أهل البيت وعند مواليهم"!، وفيما بعد، أكّد لهم أحمد بن إسحاق ما أخبرتهم به الصبيّة، وأخذ يحدّثهم من أنّ ما وقع لهم معه قد وقع له هو أيضًا مع الإمام الهادي(عليه السلام)، وأنّه قد دخل في أحد السنين على الإمام، وصادف دخوله يوم التاسع من شهر ربيع، فوجد سيّده فرحًا محتفلًا بهذا اليوم، وعندما سأل الإمام عن سرّ الفرح أجابه بأنّ حذيفة بن اليمان دخل في مثل هذا اليوم على النبي وأهل بيته(عليهم السلام) فوجدهم محتفلين مجتمعين على مائدة واحدة، والنبي(صلى الله عليه وآله) يحدّثهم عن فضائل هذا اليوم وبركاته؛ باعتباره اليوم الذي سيقتل فيه الخليفة الثاني.


ثمّ يأخذ الخبر بسرد قائمة طويلة من أسماء يوم التاسع من ربيع نقلًا عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: يا حذيفة، هذا يوم الاستراحة.. والغدير الثاني.. ويوم رفع القلم.. وعيد الله الأكبر.. وذكر أيضًا من أسمائه: أنّه عيد البقر- ويقصد يوم بقر بطن عمر بن الخطاب- وكذا يوم نزع الأسوار ونزع السواد، إلى آخر ما في الخبر من تفاصيل يمكن مراجعتها في بحار الأنوار كما أسلفتُ.


السؤال الرابع- وعلى أساس ما سبق، يبرز السؤال الأهم: لماذا أعرض الفقهاء عن هذا الخبر وتركوه جانبًا ولم يعملوا به ولا أفتوا على طبقه، رغم وجوده في بعض المصادر الشيعية؟!، وهذا في الواقع هو أهم الأسئلة المتعلقة بهذا الموضوع، وأدقها، ومن ثمّ فالجواب عنه بشكل يستدعي التمهيد له بمقدمة تأصيلية في نقطتين:

النقطة الأولى، إنّ العمل بالظن حرام، وحرمته ثابتة قرآنًا وسنة، ولا شبهة أنّ استنباط الأحكام الشرعية ونسبتها إلى الله تعالى استنادًا إلى محض وجود الخبر في أحد المصادر؛ هي من أوضح مصاديق العمل بالظن، ومن ثمّ أفاد الأعلام أنّ العمل بأحاديث الأحكام والإفتاء على طبقها مشروط بموثوقية المصدر، وسلامة المتن، وتمامية الدلالة وخلوها عن المعارض، مضافًا إلى ثبوت صحتها، وإحراز صدورها؛ كي تكون حجة للفقيه، وحجة عليه، وذا أمرٌ في الجملة محل اتفاق بين فقهاء المسلمين من العامة والخاصة، الأصوليين منهم والأخباريين، خلافًا للتصور السائد عند بعض الناس عن الأخباريين. 

قال الأمين الاستربادي(ت1023هـ) ما نصّه: صريح كلام رئيس الطائفة (قدّس سرّه) أنّه لا يجوز العمل بخبر لا يوجب القطع بما هو حكم الله في الواقع أو حكم ورد عنهم (عليهم السلام)...وأضاف رأس المدرسة الأخبارية: وما صرّح به رئيس الطائفة هو المستفاد من الروايات المتواترة عن العترة الطاهرة عليهم السلام. (انظر: الفوائد المدنية، ص145). 

والنقطة الثانية من المقدّمة تتعلق بحرمة الابتداع والتشريع، قال الشيخ النراقي(ت1245هـ): لا شك في حرمة البدعة في الدين، وإدخال ما ليس من الشرع فيه، وعليه إجماع الأمة، بل هو ضروري الدين والملة. روى ثقة الإسلام في جامعه(الكافي) عن النبي(صلى الله عليه وآله) أنّه قال: كلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النار، وروى فيه أيضًا عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّه قال: إنّما بدو[بدأ] وقوع الفتن أهواء تُتّبع، وأحكام تُبتدع، يُخالف فيها كتابُ الله، ويتولّى فيها رجال رجالًا.. ويضيف معرّفًا البدعة: والمناط في الابتداع و التشريع‌؛ وضع شي‌ء شرعًا للغير، وجعله من أحكام الشارع له(أي للغير) لا لنفسه( لنفس المبتدع)..فالبدعة فعل قرّره غير الشارع شرعًا لغيره من غير دليل شرعي..(انظر: عوائد الأيام، ص111). 

وإذا استوعبنا ما في هذه المقدمة، أعود لأجيب عن السؤال المتعلّق بالسبب وراء إعراض الفقهاء عن الخبر المنسوب إلى أحمد بن إسحاق القمي(رضوان الله عليه)، فأقول: إنّ ترك الفقهاء للعمل بالخبر آنفًا، وعدم إفتائهم على طبقه؛ يعود إلى وجود ثلاثة أنحاء من المشكلات فيه، كل واحدة منها كفيلة بسقوطه عن الحجية وتنهي صلاحية الاستدلال به، فكيف إذا اجتمعت ثلاثتها؟!، ومجمل مشكلاته الثلاث هي: واحدة تتعلّق بمصدره، وأخرى في سنده، وثالثة في متنه، وبيانها تفصيلًا كالآتي:

إنّ الخبر المنسوب إلى (أحمد بن إسحاق القمي) لم ينقل في شيء من مصادر الحديث القديمة والموثوقة لدى الإمامية، وإنّما نقل في الكتب المتأخرة، إذ بدأ نقله -على ما هو المتوفر بين أيدينا- في كتاب: زوائد الفوائد لابن طاوس، ثمّ كتاب مختصر البصائر للحسن بن سليمان الحلي(ت806هـ)، والمصادر التي سبقت هذين الكتابين فهي مصادر الفرقة النصيرية، أضف إلى ذلك أنّ الخبر لم يصلنا عن أحمد بن إسحاق بطريق معتبر، إنما وقع في طريقه واسطتان مجهولتان، هما: محمد بن العلاء الواسطي ويحيى بن جريح البغدادي. هذا فيما يتعلّق بمصدره وسنده، وأما المشاكل المتعلقة بمتنه ودلالته فحسبك أربعة منها وبشكل موجز:

1- أولها أنّ الخبر ينصّ صراحة على أنّ التاسع من ربيع الأول هو "أفضل الأعياد عند أهل البيت ومواليهم"، ومن المستبعد جدًا أن يكون التاسع من ربيع بهذه المنزلة العظيمة:(أفضل الأعياد) بقول مطلق، بينما لا نجد له عينًا أو أثرًا في أحاديث أهل البيت(عليهم السلام)، كما أنّه من غير المحتمل أن يكون كذلك عند الشيعة، وهم يعيشون بين المسلمين دون أن نجد من ينقل عنهم أنّهم كانوا في القرون الأولى يقيمون مراسم العيد والاحتفال في هذا اليوم. ولو أنّ الخبر استعمل حرف التبعيض بأن قال:(من أفضل الأعياد) مثلًا؛ لكان هناك وجهٌ لاحتمال أن يكون من ضمن الأعياد التي طواها النسيان، أو غيّبتها ظروف التقية!


2- المطعن الثاني على متنه أنّه يتضمن ما يخالف ما اجتمعت عليه الأمة في كتب التاريخ والسير من أن تاريخ وفاة الخليفة الثاني في آخر ذي الحجة، بينما يذكر الخبر أنّها يوم 9 ربيع، وقد نقل العلامة المجلسي عن ابن إدريس الحلي(ت598ه) قوله: من زعم أنّ عمر قتل في التاسع من ربيع فقد أخطأ بإجماع أهل التواريخ والسير. 

3- والمأخذ الثالث عليه هي فقرته التي تقول نقلًا عن الله تعالى: "أمرتُ الكرام الكاتبين: أن يرفعوا القلم عن الخلق ثلاثة أيام، من ذلك اليوم، ولا أكتب شيئا من خطاياهم"، ولا يخفى ما فيها!. وقد حاول بعضهم الدفاع عنها بتنظيرها بأحاديث التوبة أو الحج أو العزاء على الإمام الحسين(عليه السلام) وما أشبه ذلك، وهذا خطأ استدلالي واضح، فإن الكلام هو في ثبوت صحة الخبر فعلًا، لا في إمكان صحته، بمعنى أن ما يفيده القياس آنفًا لو صح هو إمكان صدور الخبر، لا وقوع الصدور، على أنّه قياس مع الفارق، فالموارد المقيس عليها كالحج ونحوه ثابتة بضرورة الدين أو المذهب، فيما المقيس خبر يتيم في بابه!

4- وأخيرًا، أنّ الخبر ورد في البحار مرّتين كما قدّمنا، جاء في إحداهما أنّ من ضمن أسماء هذا اليوم أنّه يوم(نزع السواد)، وفي الأخرى أنّه يوم (نزع السوار). والظاهر أنّ العبارة الأولى(نزع السواد) قد وقع فيها تصحيف، وأنّ الصحيح هي العبارة الثانية(نزع الأسوار)؛ بدليل أنّ المصادر النصيرية التي سبقت المصادر الشيعية في نقل الخبر قد جاءت به مشتملًا على عبارة:(يوم نزع السّوار) كما في الكتاب النصيري: (مجموع الأعياد، ص152) لأبي سعيد ميمون بن القاسم الطبراني(ت427هـ). 

و(نزع الأسوار أو السوار) مصطلح نصيري، يُقصد منه التخلّص من الواجبات والتحلّل من الالتزامات، في مقابل(لبس السوار) التي تشير للالتزام بالأحكام، وهذا المعنى ينسجم تمامًا مع فقرة رفع القلم السابقة، ويتلاءم أيضًا مع بعض أسماء هذا اليوم كتسميته بيوم الاستراحة، ويوم رفع القلم وما أشبه. 

والخلاصة: المشاكل التي تحفّ في الخبر أعلاه هي التي تحول دون أن يفتي فقهاء الشيعة باستحباب التعييد في التاسع من ربيع، خشية منهم في الوقوع في محذور التشريع والابتداع في الدين.

بقي أن نشير إلى خصوص مسألة الغسل في هذا اليوم، إذ ذكر بعض الفقهاء السابقين أنّ من جملة الأغسال المستحبة هو الغسل في يوم التاسع من ربيع الأول، لكنّه لم يثبت عند الفقهاء المعاصرين، بمن فيهم السيد السيستاني(دام ظلّه)، فصرّح في منهاج الصالحين(1-140) أنّه لم يثبت استحباب الغسل في هذا اليوم، ولكن لا بأس عنده بالاتيان به برجاء المطلوبية، ومقصوده أن يُؤتى بالغسل، ليس بنية الاستحباب، وإنّما يؤتى به على أمل أن يكون مطلوبًا في الواقع.

وعلى كلا التقديرين فهذا الأمر لا ينفي شيئًا مما قلناه البتة، أما على تقدير الاتيان به برجاء المطلوبية فواضح، لأن معنى ذلك: أنّ العمل غير ثابت شرعًا، وأنّ دليل استحبابه غير تامّ، وأما على تقدير ثبوت استحباب الغسل، فلأنّه ليس كل يوم يستحب فيه الغسل فهو يوم عيد كما لا يخفى، فما أكثر المناسبات والأيام التي ورد أنّ الغسل فيها مستحب ولا تمت للعيد بأية صلة، ويشبه أن يكون ما نحن فيه، أعني يوم(9 ربيع الأول) بيوم النوروز، من جهة أنّه ليس بيوم عيد في الشرع جزمًا، ومع ذا قد يشار إلى الغسل فيه.



التعليقات